فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

وقد اختلف العلماء في تعيينها هنا؛ فقال مجاهد: هي الخشوع والتواضع.
السُّدِّي: أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلّة النَّعمة.
ابن زيد: رَثَاثة ثيابهم.
وقال قوم وحكاه مَكِّيّ: أثر السجود.
ابن عطيّة: وهذا حسن، وذلك لأنهم كانوا متفرّغين متوَكلِّين لا شغل لهم في الأغلب إلاَّ الصَّلاة، فكان أثر السجود عليهم.
قلت: وهذه السِّيما التي هي أثر السجود اشترك فيها جميع الصحابة رضوان الله عليهم بإخبار الله تعالى في آخر الفتح بقوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29] فلا فرق بينهم وبين غيرهم؛ فلم يبق إلاَّ أن تكون السيماء أثر الخصاصة والحاجة، أو يكون أثر السجود أكثر، فكانوا يعرفون بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار. والله أعلم.
وأما الخشوع فذلك محله القلب ويشترك فيه الغنيّ والفقير، فلم يبق إلاَّ ما اخترناه، والموفق الإله. اهـ.
وقال القرطبي:
قوله تعالى: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} فيه دليل على أن للسِّيما أثرًا في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتًا في دار الإسلام وعَلَيْهِ زُنَّار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين؛ ويقدّم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء؛ ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30].
فدلّت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزيّ في التجمّل.
واتفق العلماء على ذلك، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يأخذه إذا احتاج.
فأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة، والشافعيّ اعتبر قوت سنة، ومالك اعتبر أربعين درهمًا؛ والشافعيّ لا يصرف الزكاة إلى المكتسب. اهـ.
وقال القرطبي:
اشتقاق الإلحاف من اللّحاف، سُمِّيَ بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف من التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله فيُلِحفهم ذلك؛ ومنه قول ابن أحمر:
فَظَلّ يَحُفُّهن بَقَفْقَفَيْه ** وَيَلْحَفُهُنّ هَفْهافَا ثَخِينَا

يصف ذكر النعام يحضُن بيضًا بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف وهو رقيق مع ثخنه.
وروى النَّسائيّ ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفِّف اقرءوا إن شئتم {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا}». اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قال ابن قتيبة: لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخُبْر، فكأنه قال: يحسبهم من لا يخبرُ أمرهم. اهـ.

.قال الألوسي:

أخرج أبو نعيم عن فضالة بن عبيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين». وأخرج هو أيضًا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «كان من أهل الصفة سبعون رجلًا ليس لواحد منهم رداء» والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم. اهـ.

.قال الفخر:

الصفة الخامسة لهؤلاء الفقراء: قوله تعالى: {لاَ يسألون الناس إلحافًا} عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الذي إن أعطى كثيرًا أفرط في المدح، وإن أعطى قليلًا أفرط في الذم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله تعالى، لأن يأخذ أحدكم حبلًا يحتطب فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس».
واعلم أن هذه الآية مشكلة، وذكروا في تأويلها وجوهًا الأول: أن الإلحاف هو الإلحاح والمعنى أنهم سألوا بتلطف ولم يلحوا، وهو اختيار صاحب الكشاف وهو ضعيف، لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن السؤال قبل ذلك فقال: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف} وذلك ينافي صدور السؤال عنهم والثاني: وهو الذي خطر ببالي عند كتابة هذا الموضوع: أنه ليس المقصود من قوله: {لاَ يسألون الناس إلحافًا} وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافًا، وذلك لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بأنهم يتعففون عن السؤال، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة فقد علم أيضًا أنهم لا يسألون إلحافًا، بل المراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافًا، ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور ثابت، والآخر طياش مهذار سفيه، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام، لا يخوض في الترهات، ولا يشرع في السفاهات، ولم يكن غرضك من قولك، لا يخوض في الترهات والسفاهات وصفه بذلك، لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك، بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني وكذا هاهنا قوله: {لاَ يسألون الناس إلحافًا} بعد قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف} الغرض منه التنبيه على من يسأل الناس إلحافًا وبيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم.
الوجه الثالث: أن السائل الملحف الملح هو الذي يستخرج المال بكثرة تلطفه، فقوله: {لاَ يسألون الناس} بالرفق والتلطف، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى فإذا امتنع القسمان فقد امتنع حصول السؤال، فعلى هذا يكون قوله: {لاَ يسألون الناس إلحافًا} كالموجب لعدم صدور السؤال منهم أصلًا.
والوجه الرابع: هو الذي خطر ببالي أيضًا في هذا الوقت، وهو أنه تعالى بيّن فيما تقدم شدة حاجة هؤلاء الفقراء، ومن اشتدت حاجته فإنه لا يمكنه ترك السؤال إلا بإلحاح شديد منه على نفسه، فكانوا لا يسألون الناس وإنما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحوا على النفس ومنعوها بالتكليف الشديد عن ذلك السؤال، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
ولي نفس أقول لها إذا ما.. تنازعني لعلي أو عساني.
الوجه الخامس: أن كل من سأل فلابد وأن يلح في بعض الأوقات، لأنه إذا سأل فقد أراق ماء وجهه، ويحمل الذلة في إظهار ذلك السؤال، فيقول: لما تحملت هذه المشاق فلا أرجع بغير مقصود، فهذا الخاطر يحمله على الإلحاف والإلحاح، فثبت أن كل من سأل فلابد وأن يقدم على الإلحاح في بعض الأوقات، فكان نفي الإلحاح عنهم مطلقًا موجبًا لنفي السؤال عنهم مطلقًا.
الوجه السادس: وهو أيضًا خطر ببالي في هذا الوقت، وهو أن من أظهر من نفسه آثار الفقر والذلة والمسكنة، ثم سكت عن السؤال، فكأنه أتى بالسؤال الملح الملحف، لأن ظهور إمارات الحاجة تدل على الحاجة وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع به تلك الحاجة ومتى تصور الإنسان من غير ذلك رق قلبه جدًا، وصار حاملًا له على أن يدفع إليه شيئًا، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف، فقوله: {لاَ يسألون الناس إلحافًا} معناه أنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق، فهذا الوجه أيضًا مناسب معقول وهذه الآية من المشكلات وللناس فيها كلمات كثيرة، وقد لاحت هذه الوجوه الثلاثة بتوفيق الله تعالى وقت كتب تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده. اهـ.

.قال القرطبي:

وقال قوم: إن المراد نفى الإلحاف، أي إنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين.
وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافًا.
روى الأئمَّة واللفظ لمسلم عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُلْحِفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فَتُخرِج له مسألُته منِّي شيئًا وأنا له كاره فيُبارَك له فيما أعطيتُه» وفي الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يَسار عن رجل من بني أسد أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقِيع الغَرقَد فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله لنا شيئًا نأكله؛ وجعلوا يذكرون من حاجتهم؛ فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلًا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؛ «لا أجد ما أُعْطِيك» فتولّى الرجل عنه وهو مُغْضَب وهو يقول: لَعَمْرِي إنك لتْعْطِي من شئت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه يغضب عليّ ألاّ أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أُوقِيّة أو عِدْلُها فقد سأل إلْحافًا» قال الأسدي: فقلت لِلَقْحَةٌ لنا خير من أوقيّة قال مالك: والأوقيّة أربعون درهمًا قال: فرجعت ولم أسأله، فقُدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله.
فقال ابن عبد البر: هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره، وهو حديث صحيح، وليس حكم الصحابيّ إذا لم يُسَمّ كحكم مَن دونه إذا لم يُسَمّ عند العلماء؛ لارتفاع الجُرْحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم.
وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة؛ فمن سأل وله هذا الحدّ والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عِدْلًا منها فهو مُلْحِف، وما علمت أحدًا من أهل العلم إلاَّ وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث.
وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله إن كان من غير الزكاة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا، فإن كان من الزكاة ففيه خلاف يأتي بيانه في آية الصدقات إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عطية:

والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط، أما الأولى فعلى أن يكون {التعفف} صفة ثابتة لهم، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال، وتكون {من} لابتداء الغاية ويكون قوله: {لا يسألون الناس إلحافًا} لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافًا من الناس، كما تقول: هذا رجل خير لا يقتل المسلمين. فقولك: خير قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل، وكثيرًا ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجودًا في القضية مشارًا إليه في نفس المتكلم والسامع. وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة، وهو مما يكره، فلذلك نبه عليه.
وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون {التعفف} داخلًا في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالًا، بل هو قليل.
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة، ف {من} لبيان الجنس على هذا التأويل، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقررًا لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي، وقال الزجّاج رحمه الله: المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف.
وهذا كما قال امرؤ القيس: الطويل:
عَلَى لاَحِبٍ يُهتَدَى بِمَنَارِهِ ** أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال ألبتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية، وأما تشبيهه الآية ببيت امرئ القيس فغير صحيح، وذلك أن قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر: البسيط:
قِفْ بِالطُّلُولِ التي لَمْ يَعْفُهَا القدَمُ

وقوله الشاعر: المتقارب:
وَمَنْ خفْتُ جَوْرِهِ فِي القَضَا ** ء فَمَا خِفْتُ جَوْرَك يَا عَافِيهْ

وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار، وإن كان المنار موجودًا فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور، وهذا لا يترتب في الآية، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني، أي ليس ثم منار، فإذًا لا يكون اهتداء بمنار، وليس ثم قدم فإذًا لا يكون عفا، وليس ثم جور فإذًا لا يكون خوف، وقوله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافًا}، لا يترتب فيه شيء من هذا، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره، ثم خصص بقوله: {إلحافًا} جزءًا من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم، والسؤال ليس هكذا مع الألحاف، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالًا لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال، كأنك قلت تكسبًا أو نحوه لصح الشبه، والله المستعان. اهـ.